الأهرام 7 مايو 1968

جريدة
تاريخ النشر مايو 7, 1968
اللغة

خلال 24 ساعة بعد بيان البطريرك: التجمع حول كنيسة الزيتون ينقلب الى زحف عارم.

خلال 24 ساعة تلت بيان البابا كيرلس تحول التجمع الذي كان يحيط بكنيسة العذراء كل ليلة الى زحف عارم.. لا يمكن ان يتصوره إلا من يراه!
شارك 92 قطارا -تتحرك بمعدل قطار كل 10 دقائق – في نقل الوف البشر الى كنيسة الزيتون ..كان كل قطار في العادة يحمل 900 راكبا بين جالس وواقف وارتفع رقمهم أمس الى أكثر من 1500 في كل قطار بشهادة محصلي شباك التذاكر في كوبري الليمون والزيتون، ويعاون القطارات حول 50 سيارة أتوبيس  تعمل على 8 خطوط كلها تمر بالزيتون وبخلاف حوالى 150 وحدة مترو قادمة من التحرير وباب الحديد بالزوار حتى محطة الفناطيس على مسافة قريبة من الكنيسة  ثم عربات التاكسي التي لا شاغل لها الان الا تحويل أفواج الناس الى كنيسة الزيتون.. وبتواضع شديد تتحرك في الشوارع الخلفية مواكب عربات الكارو والحناطير تحمل الى بحر البشر امواجا جديدة.
الساعة تجاوزت السادسة مساء بعشرين دقيقة : ..بشائر القادمين تهل من كل شارع وجهتها الكنيسة.. بجوار أسوارها افترشت أسر بأولادها وبناتها الرصيف . الظهور مستنده الى السور والارجل ممدودة على الأرض قبل السابعة بخمس دقائق لم يعد ثمة مكان في سور الكنيسة يستند الىه ظهر انسان. مازالت الارصفة من حول الكنيسة خالية من الجالسين الا من بعض الواقفين … وتمضي 10 دقائق أخري الاسوار المحيطة بالبيوت المطلة على الكنيسة مباشرة امتلات كلها بالظهور المستنده الىها .. الارصفة أمامها هي الأخري تحولت الى مجالس العائلات والناس . وأختفت كل مناطق الفراغ على طول الشارع .
اول شعاع من الضوء غمر الشارع ينبعث من الكلويات المعلقة فوق عربات الباعة المتجولين التي أرغمها رجال البوليس على التقهقر بعيدا عن الزحام.
قالت معيدة في كلية التجارة أمام باب الكنيسة اسمها صفاء جرجس : عندما شاهدت العذراء بطيفها الكامل فوق القبة الشرقية داخل دائرة من نور.. كذبت عيني ولم اصدق اما الان فقد صدقت وجئت الىوم ومعي اخوتي البنات السبعة في سيارتنا لنشاهد العذراء عن يقين وايمان.وسط الزحام.. سقط طفل لم يتجاوز الخامسة من فوق كرسي خشبي كان يحمله غلام يزاحم الواقفين الى حيث يقف رجل عجوز عند اول سور الكنيسة. الغلام اسمه حسن ..ابوه صاحب محل فراشة جاء بعربة كارو حملها بالكراسي أوقفها بعيدا… وارسل الغلام بالكراسي حسب طلبات الواقفبن المتعبين … ايجار الكرسي ثلاثة قروش في الساعة العربة الكارو تحمل 200 كرسي لم يكن باقيا منها سوى 8 كراسي يعني ان صاحب عربة الكراسي كسب في أول ساعة عمل امام الكنيسة 576 قرشا بالتمام والكمال !!
على ناحية أخري في مواجهة الكنيسة جمعت “ام صابر” وهي سيدة عمرها فوق الاربعين خمسين قفصا من أقفاص الفراخ وفرشت فوقها عددا من الحصر والاكلمة ووزعت أولادها التسعة امام الأقفاص للحراسة وتسعيرة الجلوس عندها قرش صاغ في الساعة
ويسأل غلام في العاشرة: الساعة كام يا “أفندي” يرد ثلاثة أفندية في وقت واحد  “تسعة نص يا بني” ويصيح أحد الجالسين على الأرض في صوت أجش: طلي علىنا يا ام النور ويبكي رجل مستند الى السور وتضرعات على لسانه من بين الدموع “طلي علىنا يا عدرا لاجل ابني مينا جسمه مشلول لا قادر يتحرك ولا قادر يمشي وغلبت فيه الأطباء……. اشفيه يا عدرا”
ومن الرصيف المقابل تصرخ أم وهي تحمل طفل في الثامنة من عمره : علشان ناجي ابني عنده شلل أطفال من زمان بعنا اللي ورانا واللي قدامنا يعمل ايه ابوه وماهيته 9 جنيهات !
الساعة العاشرة والنصف : المكان كله من حول الكنيسة والشوارع المحيطة بها تحول الى خلية نحل تموج بالبشر من كل طبقة .. من كل دين.
رسمي ابراهيم ساويرس: انا طالب في كلية الزراعة جامعة أسيوط جئت بقطار الصعيد الليلة مع عدد من زملائي في الكلية لتشاهد العذراء.
الكل في أسيوط في انتظار عودتنا ليسمعوا تأكيد بما شاهدتنا رؤية العين المجردة .. ليحضروا كلهم مع عائلاتهم”
سامي شفيق : أدرس في كلية الطب جامعة الاسكندرية..   تركت الجامعة رغم الامتحانات لاحضر الى كنيسة الزيتون لاري العذراء انني مريض ببقع جلدية في رقبتي وجسدي ..
ساعات الليل تمشي وبسحب رجل ريفي يجلس مع الجالسين فوق أقفاص ام صابر ساعته من جيبه .. الساعة 12 بعد نص الليل ثم ينادي الرجل على أحد الباعة :”هات واحد شاي يا منصور” ومنصور صبي قهوجي انتهز فرصة تجمع أعداد الناس الهائل الى الكنيسة وأقام “نصبة ” وابور جاز وبراد عدد من الاكواب وضعها كلها بجوار سور جراج هيئة النقل وتسعيرته كوب الشاي بقرشين وهو يكسب في الليلة الواحده على حد كلامه جنيهين  لم يكن يحلم بهما طول حياته . كل العائلات والأسر لا تجد مكانا آمنا فتستريح فيه طول الليل في انتظار ظهور العذراء الا مقهي حريب ان التسعيرة عنده الجلوس بالطلبات  يعني الكرسي بزجاجة كوكاكولا او واحد شاي والثمن موحد : خمسة قروش!
ان زجاجة المياه الغازية ايا كان نوعها ثمنها مع الباعة المتجولين وفي الأكشاك على الارصفة ثلاثة قروش بعد اعلان البابا تأكيده ظهور العذراء سارعت مصانع المياه الغازية بارسال مزيد من عرباتها الى الزيتون : واحدة منها أرسلت ثلاث عربات كل عربة تحمل 300 صندوق كل صندوق 24 زجاجة بخلاف 10 عربات من المصانع الاهلية وبعضها لا يملك عربات نقل فارسلت أعدادا من عربات الكارو الى مكان التجمع تحمل صناديق المياة الغازية ان بحر البشر المتجمع من حول الكنيسة يشرب كل ليلة على الأقل نحو 150ألف زجاجة مياه غازية.
ورغم ما يكسبه باعة المرطبات الا انهم ليسوا “اشطر من حسني” بائع السميط لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره  ويكسب في الليلة حوالى جنية ونصف وما أكثر باعة الترمس من حول بحر البشر وعدد من يقف بعربته منهم على النواصي وفي الشوارع الجانبية 67 بائعا وعلى الارصفة جلس باعة المأكولات الشعبية كان أكثر ذكاء…. مثل اسحق زكي جمع صورا مع محافظ وامشاط  وسلاسل وضعها على عربة ليبيع للناس صورا للعذراء بركة وذكري انه يكسب جنيهين كل ليلة.
ويميل أحد الواقفين على زميله: “الساعة كام يا مصطفي” ويتثاءب مصطفي قبل ان يجيبه يكمل الساعة اثنين بعد منتصف الليل ” المكان لم يعد فيه مكان لقدم.. تحول المكان من حول الكنيسة الى لوحة عامرة بتراتيل الناس وصلواتهم وتسابيحهم الدينية والظلال والالوان في اللوحة تصنعها مصابيح الشوارع والكلوبات والشموع في ايدي المرتلين والبخور يتصاعد من حول صور العذراء التي يمسك بها المنشدين.والفجر يكاد يطرق الابواب رغم ذلك لم تنم الابواب المحيطة بكنيسة الزيتون.
وكيف أنام! يقول اسماعيل ترك الذي يسكن الفيلا الملاصقة تماما للكنيسة والناس من حول منزلي تسهر حتي الصباح لقد كسرا الجموع سور منزلي 6 مرات وهدف الناس ان يشاهدوا العذراء .
المنزل المواجه للكنيسة تماما اغلقه اصحابه.. ولم يتركوا سوي “الجنايني” يرد الناس عن الأسوار.
الأسرة الوحيدة التي تسمح للناس بأن تشاهد طيف العذراء فوق منزلها دون مقابل هي أسرة “سونيا لبيب” الطالبة بكلية الاداب رغم اقدام الناس وخطاهم فوق سقف المنزل .
ورغم ان الاهل والاصدقاء يملاون الشرف المطله على الكنيسة كل ليلة حتي الصباح الا ان ذلك لا يهم فهو بركة ونور.
والصباح يطرق الباب على بحر البشر الملاطم ويكثر عدد المتثاءبين وطيف العذراء لم يظهر بعد وينسحب الناس واحدا واحدا اثنين اثنين وعائلة في اثر عائلة … ويمسك أحدهم بذراع زميله وهو يستند الىها في طريقها الى المنزل ويسأل : الساعة بقت كام؟ ولا يرد عليه زميله فان شمس الصباح كانت قد بزغت بنورها.
تحقيق عزت السعدني